د. دعاء بدوي تكتب عن تتبع الأغذية بثورة البلوك تشين والذكاء الاصطناعي

في عالم يزداد فيه وعي المستهلكين بجودة وسلامة مصادر غذائهم، أصبحت شفافية سلسلة الإمداد الغذائي ضرورة ملحة. لم يعد كافيًا معرفة تاريخ انتهاء الصلاحية؛ بل يتطلع المستهلكون إلى فهم رحلة الغذاء بأكملها، بدءًا من المزرعة أو المصنع وصولًا إلى أطباقهم.

تقليديًا، كانت سلاسل الإمداد الغذائي معقدة وغير شفافة، مما يثير مخاوف بشأن سلامة الغذاء، ومصدره، وممارسات الإنتاج. لكن مع ظهور تقنيات ثورية مثل البلوك تشين والذكاء الاصطناعي، أصبح تحقيق شفافية كاملة في سلسلة الإمداد الغذائي أمرًا ممكنًا.

في هذا المقال، سنتعمق في مفهوم تتبع الأغذية وأهميته المتزايدة، ونستكشف كيف يمكن لتقنيات البلوك تشين والذكاء الاصطناعي أن تحدث تحولًا جذريًا في تحقيق شفافية غير مسبوقة في سلسلة الإمداد الغذائي، ونتناول الفوائد والتحديات والتطبيقات العملية لهذه التقنيات.

أهمية تتبع الأغذية وضرورته المتزايدة

تتبع الأغذية هو القدرة على تتبع مسار أي مادة غذائية أو مكوناتها عبر جميع مراحل الإنتاج والتجهيز والتوزيع. تزداد أهمية تتبع الأغذية لعدة أسباب حاسمة:

• ضمان سلامة الغذاء: في حال حدوث تلوث أو تفشي الأمراض المنقولة بالغذاء، يتيح التتبع السريع تحديد مصدر المشكلة وسحب المنتجات المصابة بكفاءة، مما يحمي صحة المستهلكين ويقلل من الأضرار الاقتصادية.

• تعزيز ثقة المستهلك: يوفر التتبع معلومات موثوقة حول مصدر الغذاء، وطريقة إنتاجه، والممارسات المتبعة، مما يعزز ثقة المستهلكين بالعلامات التجارية والمنتجات.

• تحسين إدارة سلسلة الإمداد: يساعد التتبع في تحديد نقاط الضعف والاختناقات في سلسلة الإمداد، مما يتيح تحسين الكفاءة وتقليل الفاقد والتكاليف.

• مكافحة الاحتيال الغذائي: يمكن للتتبع أن يساعد في التحقق من أصالة المنتجات ومنع التلاعب والغش في العلامات التجارية والمكونات.

• الامتثال للوائح والقوانين: تفرض العديد من الدول لوائح وقوانين صارمة بشأن تتبع الأغذية لضمان سلامة المستهلك وحماية الأسواق.

• دعم الاستدامة: يمكن للتتبع أن يوفر معلومات حول الممارسات الزراعية والبيئية المستخدمة في إنتاج الغذاء، مما يدعم خيارات المستهلكين المستدامة.

ثورة البلوك تشين في تتبع الأغذية

البلوك تشين هي تقنية دفتر الأستاذ الموزع واللامركزي، حيث يتم تسجيل المعاملات في "كتل" مرتبطة ومشفرة بشكل آمن. تتميز البلوك تشين بالعديد من الخصائص التي تجعلها مثالية لتتبع الأغذية:

• اللامركزية: لا يوجد طرف مركزي يتحكم في البيانات، مما يزيد من الأمان والموثوقية ويقلل من مخاطر التلاعب. 

• الشفافية: يمكن لجميع المشاركين المصرح لهم في الشبكة رؤية سجل المعاملات، مما يوفر درجة عالية من الشفافية. 

• الأمان: يتم تشفير البيانات وتأمينها باستخدام تقنيات التشفير المتقدمة، مما يجعل التلاعب بها صعبًا للغاية. 

• عدم القابلية للتغيير: بمجرد تسجيل المعاملة في البلوك تشين، يصبح من المستحيل تغييرها أو حذفها، مما يضمن سجلًا دقيقًا وغير قابل للتزوير.

• الكفاءة: يمكن للبلوك تشين تبسيط عمليات تتبع الأغذية وتقليل الحاجة إلى المستندات الورقية والوسطاء.

كيف يعمل البلوك تشين في تتبع الأغذية؟

يتم تسجيل كل مرحلة من مراحل رحلة الغذاء على البلوك تشين كمعاملة، بدءًا من المزرعة (معلومات عن المنشأ، وظروف النمو، والممارسات الزراعية)، مرورًا بالمعالجة والتعبئة والتوزيع (معلومات عن درجات الحرارة، وتواريخ المعالجة، وتفاصيل النقل)، وصولًا إلى التاجر والمستهلك (تاريخ الشراء، والموقع). يتم ربط هذه المعاملات بشكل تسلسلي وآمن، مما يوفر سجلًا دقيقًا وكاملًا لتاريخ المنتج الغذائي. يمكن للمستهلكين مسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code) على المنتج للوصول إلى هذه المعلومات.

قوة الذكاء الاصطناعي في تعزيز تتبع الأغذية

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا تكميليًا وحيويًا في تعزيز قدرات تتبع الأغذية:

• تحليل البيانات الضخمة: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل كميات هائلة من البيانات المتولدة من خلال نظام تتبع البلوك تشين لتحديد الأنماط والاتجاهات والمخاطر المحتملة في سلسلة الإمداد.

• التنبؤ بالمخاطر: يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي التنبؤ بمخاطر التلوث أو التلف المحتملة بناءً على البيانات التاريخية والظروف الحالية (مثل درجة الحرارة والرطوبة). 

• تحسين الكفاءة اللوجستية: يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين مسارات النقل وتقليل وقت التسليم وتقليل الفاقد من خلال التنبؤ بالطلب وإدارة المخزون بكفاءة. 

• اكتشاف الاحتيال: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل البيانات لتحديد الأنشطة الاحتيالية المحتملة في سلسلة الإمداد، مثل تزوير المنشأ أو التلاعب بتاريخ الصلاحية. 

• تحسين جودة الفحص: يمكن استخدام رؤية الكمبيوتر (Computer Vision) المدعومة بالذكاء الاصطناعي لفحص المنتجات الغذائية بشكل آلي وسريع لتحديد العيوب أو التلوث. 

• توفير رؤى للمستهلك: يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي تحليل بيانات التتبع وتقديم رؤى قيمة للمستهلكين حول جودة الغذاء وقيمته الغذائية ومصدره بطريقة سهلة الفهم.

التكامل بين البلوك تشين والذكاء الاصطناعي لتوفير شفافية كاملة

يكمن القوة الحقيقية في الجمع بين قدرات البلوك تشين والذكاء الاصطناعي لتوفير نظام تتبع أغذية قوي وشامل:

• بلوك تشين كأساس موثوق للبيانات: يوفر البلوك تشين منصة آمنة وغير قابلة للتغيير لتسجيل جميع معلومات التتبع.

• الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات واستخلاص الرؤى: يقوم الذكاء الاصطناعي بتحليل البيانات المسجلة على البلوك تشين لتوفير رؤى قيمة وتنبؤات وتحسينات.

• نظام تتبع استباقي وذكي: يمكن للنظام المتكامل التنبؤ بالمخاطر واتخاذ إجراءات وقائية قبل وقوع المشكلات.

• شفافية كاملة للمستهلك: يمكن للمستهلكين الوصول إلى معلومات شاملة وموثوقة حول رحلة الغذاء من خلال واجهات سهلة الاستخدام.

• كفاءة وأمان معززان: يوفر النظام المتكامل كفاءة أكبر في إدارة سلسلة الإمداد وأمانًا أعلى للبيانات والمعلومات.

الفوائد العملية لتطبيق البلوك تشين والذكاء الاصطناعي في تتبع الأغذية

يوفر تطبيق البلوك تشين والذكاء الاصطناعي في تتبع الأغذية العديد من الفوائد العملية للمستهلكين والشركات والحكومات:

• للمستهلكين: 

o معلومات أكثر تفصيلاً وموثوقية عن مصدر الغذاء وجودته. 

o قدرة أكبر على اتخاذ خيارات غذائية مستنيرة. 

o زيادة الثقة في سلامة الغذاء. 

o سهولة تتبع مصدر أي مشكلة غذائية محتملة.

• للشركات:

o تحسين إدارة سلسلة الإمداد وتقليل الفاقد. 

o تعزيز سمعة العلامة التجارية وثقة المستهلك. 

o الامتثال بشكل أفضل للوائح والقوانين. 

o القدرة على الاستجابة السريعة والفعالة لحالات سحب المنتجات. 

o الحصول على رؤى قيمة لتحسين عمليات الإنتاج والتوزيع.

• للحكومات والهيئات التنظيمية:

o تعزيز الأمن الغذائي وحماية الصحة العامة. 

o تسهيل عمليات الرقابة والتفتيش. 

o مكافحة الاحتيال الغذائي بشكل أكثر فعالية. 

o بناء نظام غذائي أكثر شفافية واستدامة.

التحديات التي تواجه تطبيق البلوك تشين والذكاء الاصطناعي في تتبع الأغذية

على الرغم من الإمكانات الهائلة، لا يزال تطبيق البلوك تشين والذكاء الاصطناعي في تتبع الأغذية يواجه بعض التحديات:

• التكلفة الأولية للتطبيق: قد يكون إنشاء وتنفيذ أنظمة تتبع تعتمد على هذه التقنيات مكلفًا في البداية. 

• التكامل مع الأنظمة الحالية: قد يكون دمج الأنظمة الجديدة مع البنية التحتية وسلاسل الإمداد الحالية أمرًا معقدًا.

• قابلية التوسع: ضمان قدرة النظام على التعامل مع كميات هائلة من البيانات والمعاملات في سلاسل الإمداد الكبيرة. 

• توحيد المعايير: الحاجة إلى معايير موحدة لضمان تبادل البيانات بسلاسة بين مختلف المشاركين في السلسلة. 

• خصوصية البيانات وأمنها: ضمان حماية البيانات الحساسة وعدم إساءة استخدامها. 

• الوعي والتدريب: الحاجة إلى تدريب العاملين في مختلف مراحل سلسلة الإمداد على استخدام الأنظمة الجديدة. 

• التعاون بين الأطراف المختلفة: يتطلب التطبيق الناجح تعاونًا وثيقًا بين المزارعين والمصنعين والموزعين والتجار والجهات التنظيمية.

تطبيقات عملية وحالات استخدام ناجحة

بدأ بالفعل تطبيق البلوك تشين والذكاء الاصطناعي في تتبع الأغذية في العديد من القطاعات حول العالم، محققًا نتائج واعدة:

• تتبع المأكولات البحرية: ضمان مصدر المأكولات البحرية ومكافحة الصيد غير القانوني. 

• تتبع اللحوم والدواجن: توفير معلومات حول ظروف التربية والتغذية والمعالجة. 

• تتبع المنتجات الزراعية: تتبع رحلة الفواكه والخضروات من المزرعة إلى المستهلك. 

• تتبع القهوة والشاي: ضمان مصدر حبوب البن وأوراق الشاي وممارسات الزراعة المستدامة. 

• تتبع الأدوية والمستلزمات الطبية: ضمان سلامة الأدوية ومنع التزوير.

هناك العديد من الشركات والمبادرات التي تقود هذا التحول، مما يدل على الإمكانات الحقيقية لهذه التقنيات في إحداث ثورة في شفافية سلسلة الإمداد الغذائي، حيث يمثل دمج تقنيات البلوك تشين والذكاء الاصطناعي نقلة نوعية في مجال تتبع الأغذية. إن القدرة على توفير شفافية كاملة في سلسلة الإمداد الغذائي تحمل في طياتها فوائد جمة للمستهلكين والشركات والحكومات على حد سواء، بدءًا من ضمان سلامة الغذاء وتعزيز ثقة المستهلك وصولًا إلى تحسين الكفاءة ومكافحة الاحتيال ودعم الاستدامة. وعلى الرغم من التحديات التي لا تزال قائمة، فإن الإمكانات الهائلة لهذه التقنيات تشير إلى مستقبل سيشهد تحولًا جذريًا في الطريقة التي نفهم بها ونتفاعل مع غذائنا. من خلال التعاون والابتكار المستمر، يمكننا تسخير قوة البلوك تشين والذكاء الاصطناعي لبناء نظام غذائي أكثر شفافية وأمانًا واستدامة للجميع.

مقال 

تتبع الأغذية بثورة البلوك تشين والذكاء الاصطناعي

نحو شفافية كاملة في سلسلة الإمداد الغذائي

د. دعاء محمود بدوى

قسم تكنولوجيا الحاصلات البستانية 

معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية