د. إبراهيم عبدالباقي يكتب الجُبن... مَانِح ُالسعادة

هيئ براعم تذوقك لرحلة شيقة، بينما نكشف لك عن التناغم الرائع بين مركز المتعة في مخك وشريحة الجبن اللذيذة في طبقك. سواء كُنت من عشاق الأجبان الفاخرة أو الشعبية، فمن المرجح أنك قد اختبرت هذه اللذة اللبنية التي لا تُقاوم. ولكن هل تساءلت يومًا عن سبب تأثير الجبن القوي علينا؟ إنه التفاعل المذهل بين الجبن ونظام المكافأة في المخ، وخاصةً الناقل العصبي الدوبامين.

جاذبية الجبن

عشق عالمي عبر آلاف السنين و بات يُستمتع به في جميع الثقافات، من الجبن الأزرق  الفرنسي ذي النكهة اللاذعة إلى الموزاريلا الايطالية، وجبن الشيدرالبريطاني. هذه الشعبية الواسعة ليست مجرد ذوق؛ فهناك تفسيرٍ علمي لهوسنا بالجبن يتجاوز براعم التذوق ويصل إلى المخ. ولفهم العلاقة بين الجبن والدوبامين يجب معرفة التركيب الكيميائي للجبن ودور الدوبامين في المخ. 

قد يبدو الجبن طعامًا بسيطًا، لكنه غني باالبروتينات والدهون والفيتامينات والمعادن. وللدهون والكازين أهمية خاصة في علاقة الجبن بالدوبامين (هرمون السعادة). 

الكازين هو بروتين الحليب الأساسي، خلال هضم الجبن، ينفرد منه جزيئات بروتينية أصغر تُسمى "الكازومورفينات"،  هذه الجزيئات مثيرة للاهتمام بشكل خاص لأنها تتفاعل مع مستقبلات الأفيون في المخ، على غرار آلية عمل المورفين وغيره من المواد الأفيونية. يُعد هذا التفاعل أحد أسباب تأثير الجبن المهدئ الخفيف، والذي يجعل البعض يجده مُرضيًا للغاية.

 كما يلعب دهن الجبن دورًا حاسمًا في جاذبيته.  حيث يُكسبه قواما مرغوبا ومذاقا شهيا ونكهة مميزة، ويمكن  دهن الجبن أن يُحفز إفراز هرمونات الشعور بالسعادة في أجسامنا. وقد تصل  لخصائصه الإدمانية لدي بعض الاشخاص.

أما الدوبامين فهو الناقل العصبي المسؤول عن الشعور بالنشوة، والتركيز، والتحفيز، وبالتأكيد الشعور بالسعادة، و لكي نفهم العلاقة بين الجبن والدوبامين، علينا فهم دور الدوبامين في أدمغتنا. الدوبامين ناقل عصبي كيميائي ينقل الإشارات بين الخلايا العصبية في المخ. ويلعب دورًا حاسمًا في مزاجنا وتحفيزنا ونظام المكافأة لدينا والشعور بالمتعة، فعندما يُفرز الدوبامين في مناطق معينة من المخ يُولد مشاعر المتعة والرضا و يُحفز هذا الإطلاق  تعزيز مُحفزات مُختلفة، بما في ذلك الأكل والتكاثر والنشوة. و قد يؤدي هذا النظام أحيانًا إلى الإفراط في الاستهلاك أو سلوكيات إدمانية.

لا يُشعرنا الدوبامين بالسعادة فحسب، بل يلعب أيضًا دورًا حيويًا في التعلم والتحفيز. فعندما نختبر شيئًا ممتعًا، يُعزز الدوبامين هذه التجربة، مما يزيد من احتمالية سعينا لتكرارها في المستقبل. ولهذا السبب، يرتبط الدوبامين ارتباطًا وثيقًا بالرغبة الشديدة في تناول الطعام والسلوكيات الإدمانية.

تفاعل تناول الجبن و اطلاق الدوبامين

إذن كيف ينفاعل تركيب الجبن و الدوبامين لخلق مشاعر النشوة، والتركيز، والتحفيز، والسعادة؟  عند تناول الجبن، تحدث عدة عمليات تُحفز إفراز الدوبامين في المخ. أولاً، يمكن للكازومورفينات المُنتجة أثناء هضم الجبن أن تُحفز مستقبلات الأفيون في المخ. ورغم أن هذا التأثير أخف بكثير من تأثير المواد الأفيونية، إلا أنه يُسهم في الشعور بالمتعة والرفاهية. كما يُمكن لدهون الجبن أن تُحفز إفراز الإندورفين، وهو نوع آخر من المواد الكيميائية المُحسّنة للشعور بالسعادة في الدماغ. كما أن مزيج النكهات والقوام والمكونات الغذائية في الجبن يجعله طعامًا شهيًا للغاية. فعندما نتناول شيئًا لذيذًا، يُنشط نظام المكافأة في المخ، مما يؤدي إلى إفراز الدوبامين. يُعزز هذا الإفراز المتعة التي نشعر بها عند تناول الجبن، مما يزيد من احتمالية اشتهائنا له في المستقبل.

بسبب تأثرات  مكونات الجبن  علي كيمياء المخ، يقال أن  لها خصائص إدمانية خفيفة لكن لا يُصنف  كاضطرابات سريرية ،  إلا أن الكثير من الناس يُبلغون عن شعورهم برغبة شديدة في تناول الجبن أو صعوبة في التحكم في استهلاكهم له. تجدر الإشارة إلى أن الجبن ليس فريدًا في قدرته على تحفيز إفراز الدوبامين. فالعديد من الأطعمة الأخرى، وخاصة تلك الغنية بالدهون والسكر والملح، يمكن أن يكون لها تأثيرات مماثلة. 

شغفنا بتناول منتجات الألبان، قد يفسر بعلاقة الجبن بالدوبامين ،  ويُمكن أن يكون الجبن جزءًا من نظام غذائي صحي عند تناوله باعتدال، إلا أن الإفراط في تناوله قد يؤدي إلى مشاكل صحية. فمن الناحية الإيجابية، يُعد الجبن مصدرًا جيدًا للبروتين والكالسيوم  والفوسفور وعناصر غذائية أساسية  حيوية ووظيفية أخرى قد يكون لها فوائد للقلب والأوعية الدموية،والتفكير والبشرة والصحة العامة، على الرغم من محتواه العالي من الدهون المشبعة. فثراء الجبن بالبروتين يُساعد علي الشعور بالشبع والرضا، مما قد يُساعد في التحكم في الوزن عند تناوله كجزء من نظام غذائي متوازن.

ومع ذلك، قد تؤدي خصائص الجبن المُحفِّزة للدوبامين إلى الإفراط في تناوله لدى بعض الأفراد. ويمكن أن يُسهم الإفراط في تناول الجبن في استهلاك كميات كبيرة من السعرات الحرارية والدهون المشبعة، مما قد يزيد من خطر الإصابة بالسمنة والمشاكل الصحية المرتبطة بها. إضافةً إلى ذلك، قد يُعاني بعض الأشخاص من حساسية تجاه الكازومورفينات الموجودة في الجبن، مما يُسبب لهم عسر هضم أو آثارًا جانبية أخرى. 

والجدير بالذكر يجب مراعاة تداخل تأثير  الجبن مع عناصر غذائية أخري  محفزة لافراز الدوبامين في الجسم، مثل الاطعمة الحارة أو المشهيات والتي تضاعف انتاج هرمون  الدوبامين .

إن التحكم في الرغبة الشديدة في تناول الجبن واستهلاكه نظرًا لاحتمالية أن يُثير الجبن شهية قويةً في تناوله، فمن المهم وضع استراتيجيات للتحكم في استهلاكه باعتدال وليس بإفراط. كي نستفيد من فوائده الغذائية والصحية ونتجنب الآثار  السلبية  للإفراط في تناوله

هناك نهج آخر يتمثل في استكشاف خيارات الجبن الصحية. بعض أنواع الجبن أقل دهونًا وسعرات حرارية من غيرها، مع الحفاظ على نكهة الجبن المُرضية. على سبيل المثال، عادةً ما تكون جبن الموزاريلا الطازج والفيتا وجبن الماعز أقل سعرات حرارية من الجبن المُسوي الصلب مثل الشيدر أو البارميزان. يمكنك أيضًا التفكير في بدائل الجبن النباتية، والتي يمكن أن تُشبع الرغبة الشديدة في تناول الجبن لمن يرغبون في تقليل استهلاكهم من منتجات الألبان. إذا كنت تشتهي الجبن باستمرار، فقد يكون من المفيد دراسة الأسباب الكامنة وراء ذلك.

فاذا كانت الجبن تخفف التوتر والقلق  بتحفيزها للدوبامين، فان هناك عدة اجراءات أخري تقوم بذلك مثل  ممارسة الرياضة أو التأمل أو القراءة، وذلك لأولئك الذين يُعانون من سلوكيات الأكل القهري، بما في ذلك الإفراط في تناول الجبن كوسيلة راحة نفسية

وفي  الختام، فان العلاقة  بين تناول الجبن والدوبامين توضح  أن حبنا للجبن يتجاوز مجرد مسألة ذوق. إنه تفاعل مُعقد بين كيمياء المخ، وعلم الأحياء التطوري، والعوامل الثقافية. بفهم هذه العلاقة، يُمكننا التعامل مع استهلاكنا للجبن بوعي وتوازن أكبر. لذا، في المرة القادمة التي تجد نفسك منجذبًا بشدة إلى طبق الجبن، تذكّر: ليس الأمر مجرد براعم التذوق لديك، بل هو رقصة مُتقنة من النواقل العصبية في دماغك. استمتع بجبنك، واستمتع بالتجربة، وقدّر العلم المُذهل وراء رغباتك. ففي النهاية، الحياة كلها تدور حول التوازن - وأحيانًا، يشمل هذا التوازن قطعة جبن مُعتّقة تمامًا.

 الجُبن... مَانِح ُالسعادة

الاستاذ الدكتور / إبراهيم عبد الباقي

أستاذ ميكروبيولوجيا الأغذية 

معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية